إعداد: ا. د حمدان علي نصر
إن التأمل في الهدف النهائي من اي من الأديان السماوية او الوضعية في العالم وعلى مر التاريخ ، كان وما زال هو العمل على تشكيل منظومة من القيم الأخلاقية التي تصبغ ممارسات الناس بسلوك انساني فيه الرحمة والتواد، والعون، والفضيلة ، عبر مواقف الحياة والتواصل والتفاعل المختلفة ، وليس ادلُّ على صحة ما أقول ان الله منح رسول البشرية محمد صلى الله عليه وسلم صفة لم يمنحها لغيره من الأنبياء والرسل بقوله جلّ وعلا مخاطبًا إياه ” وإنك لعلى خلق عظيم “، وعلى الرغم من قصر الآية غير انها نابضة بأبرز ما يحتاجه الانسان في حياته عبر تفاعله مع ابناء جنسه ، وحتى مع بقية المخلوقات الأخرى ، وقد وصف خلق الرسول بالعظيم ، والعظمة تعني قمة الوصف شكلا ومضمونًا ، فضلا عن دلالات السمو والتميّز والتأثير والعظيم صفة لا يجوز ان تخلع الا على الله جلّ جلاله ، وما هذا الموقف الالاهي من الله تجاه رسولنا سوى تأكيده على أهمية الأخلاق في الحياة ، ودورها في نشر الفضيلة ، ونشر الاسلام في ربوع الأرض بأساليب تتفق وصفات الانسان ، بحسن المعاملة ، وبالتي هي احسن ، وبالقدرة طريقًا للقبول والإقناع، والعمل، لان التعامل بالفعل وبالكلمة الطيبة هو مفتاح التقبل ، وأعمال العقل والتسليم بالرسائل مدار الدعوة ، والأخذ بتعاليم الاسلام ، ويؤكد ذلك ان اخلاقُ القادة والجيوش الاسلامية واخلاق التجار والعلماء وما كانو يتصفون به من أدب الحديث وسمو الفكرة ، ودماثة التعامل هي التي أسرت قلوب الكفار واهل البلاد المفتوحة وجعلتهم يقبلون على الدخول في الاسلام . وهذا النهج العام للمسلمين في بداية الدعوة من صدر الاسلام كان يمثل بدقة فلسفة الاسلام الحنيف، وكان يمثل المصداقية في التواصل وفي عقد المعاهدات والوفاء بالعهود والوعود، والتاريخ والأدب العربي زاخر بالأمثلة على ان الاسلام انتشر بالدعوة والسلم وليس بالسيف والحرب ، وبودي لو قرات في هذا المجال كتاب إسلام بلا مذاهب للعلامة مصطفى الشكعة ، كان مقررا لنا في السنة الثالثة من دراستي لبكالوريوس اللغة العربية وآدابها.
وفي هذا السياق يوضح الصورة بجلاء اكثر قول رسولنا عن ذاته محددا ابرز أهداف الرسالة وحمل لوائها : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وفي ذلك ما يشير دون ادنى شك الى ان سمو الأخلاق ونشرها بين الناس والتخلف بخلق الرسول انموذجًا ، وخلق الاسلام فلسفة هي الغاية القصوى من نشر الاسلام ،
ولم يكن دعاة الاسلام عبر العصور خطابات ، وأزياء ، ومواعظ من فوق المنابر فحسب بل كانت الدعوة أفعالا واعمالا وانتاجًا ونماذج تحاكى عبر مواقف الحياة، فلا تاثير لقول غير مصحوب بالفعل والعمل ، والله غنيّ عن عبادة العباد ، لكنه يفرح ويسًًرّ ويباهي بالمسلمين الذين يترجمون مباديء الاسلام السمحة النبيلة الى ممارسات في مواقف الحياة من تواصل وبيع وشراء وتعليم وتعلم ، وصناعة وتجارة ، وهذه الممارسات هي التي تميّز المسلم عن غيره ، وهي التي تميّز ابناء العصر الذي يوصف بالمعلوماتية والتقانة ، والنظرة الإنسانية ، عن أقرانهم في عصور الجهل والتخلف والظلم والاستبداد التي مضت قبل ظهور الاسلام .وايس ادل على ان تطبيق مباديء الاسلام هو الاهم من معرفة تلك المباديء ان دراسة حديث لباحث بريطاني اجريت على عينة من عدة دول عربية وإسلامية ودول يدين معظم سكانها بالمسيحية والبوذية ، اشارت الى ان اكثر الدول تطبيقا لمباديء الاسلام في الحياة والمعاملات كانت غير عربية وغير إسلامية ،وهذا يعني ان كثيرا من الشعوب من غير بلاد المسلمين يطبقون مباديء الاسلام على اكمل وجه ، في حبن ان دولا تدين بالإسلام لم ترق الى مستوى تلك التي طبقت مباديء الاسلام ، ولا أغالي ان قلت ان ذلك قد شاهدته بام عيني في تعاملي مع عدد من الشعب الأمريكي الذي لا يدين بالإسلام الا انهم يعيشون مبادئه ويمارسونها في حياتهم .
ولله در الشاعر معروف الرصافي حين قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا
واذا تأملنا معًا مضمون هذا البيت نرى انه يشكل توجيها فاعلا نحو الأخذ بالأخلاق مدخلا لرقي الامة وتقدمها وبقائها حية نامية كالشجرة التي جذورها في الأرض وفرعها في السماء.ويتطلب هذا المدخل تضافر جهود العاملين في مجال إعداد القوي والتنمية البشرية في بلادنا لوضع الخطط والبرامج عبر مؤسسات الإعداد والتكوين من مدارس ومعاهد، وجامعات، وأندية ، ومراكز بحث ، وأسر ، في إطار من التعاون والتكامل لإكساب الناشئة عبر مستويات الإعداد المختلفة مهارات التواصل، واآداب الحوار ، ووسائل الإقناع، وتقبل الاختلاف، والتعايش مع الأديان والثقافات في إطار انساني انطلاقا من القول ” كلكم من آدم وآدم من تراب”.
ومن منطلق تربوي ارى ان البحث العلمي كشف في عديد الدراسات ان الإطار الانفعالي والقيمي لدى الانسان عبر مراحل نموه المختلفة يعمل في وجود علاقة بينية تكاملية متبادلة ، وان النشاط العقلي ينشط لدى الفرد ويبدع اذا وجد تحفيزا وتفاعلا مما فيه من رغبات، وميول وقابليات وقيم اخلاقية، وعلمية واجتماعية ، وما ينتمي اليه من عادات إيجابية ، ولعل في ذلك ما يشير الى ضرورة التحول في العصر الحالي ألدي نعيش من التركيز على التنمية الذهنية الى الاهتمام بشكل افضل بتربية الجوانب الوجدانية لدى الأفراد ، عبر مواقف التعلم والتعليم، وعبر مواقف التطبيق، والتفاعل اللغوي والذهني، وما وراء التفكير ، لمساعدة الناشئة على التواصل مع أقرانهم ومع الآخرين بكفاءة واقتدار، وبأدب ينسجم وطبيعة الانسان الآخر الذي يجمعنا به سلوك العبادة وإعمار الكون ، وتبادل المنافع لحياة تنعم بالسلام، لا بالاستسلام ، وبالطمأنينة لا بالخوف والقلق، وبالابداع لا بالتقليد ، وهذه ملامح ما يمكن ان اسميه التربية الإنسانية التي محورها الإيمان بالخالق، والإيمان بان افكارنا افعالنا وأعمالنا المصحوبة بالممارسة الإنسانية الراقية، هي التي تجعل شعوب الأرض كافة اكثر تآلفا وتعارفا، وميلا الى السلم وبعدا عن الحرب ، وبذلك تتحقق دعوة الله للخلق “با أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم”. وهنا نلاحظ ان الخطاب كان للناس كافة على اختلاف مواقعهم من الأرض، وليس للمسلمين وحدهم ، بدليل قوله شعوبا وقبائل مختلفة متنوعة في الأديان والثقافات، والتاريخ والخغرافيا،
ولعل الدعوة الى ثورة اخلاقية مجتمعية معاصرة تتماشى ، والانفلات القيمي والاجتماعي، وسوء التعامل الملموس، بين الناس في مواقف الحياة ، وقصور حتى بعض المثقفينمنهم من التفاعل البناء ، وقصورهم احيانًا عن اختيار الألفاظ والعبارات المناسبة للسياق، ومقتضى الحال، فضلا عن الافتقار لمهارات التعبير في مواقف الشكر والثناء، والتعليق والتعقيب، وما يتلام مع مباديء الخطاب ، وحتى رد التحية بالصورة اللائقة ، ناهيك عن العقوق ونكران الجميل ، وعدم الوفاء للآخر ممن كان له التأثير المباشر او غير المباشر في تشكيل حياة الفرد بدءًا بالوالدين، ومرورا بالمعلمين ، وانتهاءً بالأصدقاء والاحبة ، والأمثلة على ذلك كثيرة وعديدة ، ولعل عقوق بعض طلبة الدراسات العليا لي ولبعض زملائي، على الرغم من الجهود الكبيرة والنوعية ، في مجال تكوينهم الأكاديمي، وسرعان ما تناسى بعضهم كل ذلك . مع تقديري لكثير من الطلبة الأوفياء الذين حفظوا حق معلميهم عليهم ، ولم ينسوا الجميل حتى وهم بعيدين في مواقع العمل في مناطق مختلفة من العالم ، مجسدين بذلك التواصل الطيب خلق طالب العلم ” من علمني حرفا كنت له عبدا”،. اسال الآه اهم التوفيق والسداد.
واختم بالدعاء في هذه الساعة قبل نهاية هذا اليوم المبارك لي ولكم ، ولكل الزملاء الأساتذة حيثما كانوا ان يعيننا جميعًا على الإسهام في إشاعة الأخلاق الحميدة بيننا من ناحية وبين الناشئة وأساتذتهم ومربيهم ، وبينهم وبين آبائهم وأمهاتهم من ناحية ثانية ، والعمل على تصحيح بعض الممارسات الخطا لدينا ولدى من نتفاعل معهم، يجمعنا هدف واحد هو الإصلاح والارتقاء بمستويات التواصل على الأصعدة كافة ، ونحن فعلا احوج ما نكون اليه بعيدا عن الشخصية والذاتية والنفعية.
ولعل في ذلك ما يقرّبنا الى الله لننال رضاه ، والله وليّ التوفيق